
نهاية الدساتير
كيفما صيغت الوثائق الدستورية ، ومهما اجتهد واضعوها في جعلها مسايرة لأوضاع المجتمعات التي تكتنفها سواء في حاضرها أو ما تنبؤوا به لها في مستقبلها ، فلن تتصف بالكامل والخلود ، ستبقى صلاحية أحكامها نسبية ؛ وسيأتي اليوم حيث تصبح متجاوزة ، وكما رأينا في النقطة السالفة إمكانية إسقاط جزء من أحكامها لقيام أخرى بدلها عن طريق التعديل ، فيمكن كذلك أن تسقط تلك الأحكام كليا ، أي إنهاء حياة الدستور ككل وليس جزء منه فقط ، وفسح المجال لقيام وظهور دساتير أخرى تتماشى وطبيعة التغيرات والمستجدات الواقعة على المجتمعات . والمقصود بنهاية الدستور الغاؤه وانقضاء أحكامه بوضع حد لسريانها وإخراجها من حيز النفاذ . وهذا الانقضاء ينطوي على مجموعة من الاعتبارات ، لعل أهمها اعتبارين أساسيين ، أولهما حفظ حق الشعب الأمة ، صاحب السيادة ومكمن الإرادة ومنبع كل السلط بما فيها السلطة التأسيسية الأصلية ، في استبدال دستوره متى شاء ، باعتبار هذا الحق غير قابل للتقادم ، كما أنه ليس مقبولا حفظه لجيل وإسقاطه عن الأجيال اللاحقة ، فمتى رأى الشعب إسقاط دستور وقيام آخر له الحق في ذلك ، وثاني الاعتبارين يتمثل أساسا في مسايرة الظروف المتغيرة ، والتي قد تتطور وتتغير بشكل أكثر عمقا ، لاسيما على الصعيدين السياسي والاجتماعي ، ما يفرض أنماط وآليات اشتغال جديدة على مستوى نظام الحكم والعلاقات فيما بين السلط وكذا علاقاتها بالأفراد داخل المجتمع ، الواقع الذي لا يكفي معه التغيير الجزئي لأحكام الدستور ، بل يستدعي تغييرا شاملا وكليا لأحكامه ، ما يفضي في نهاية المطاف إلى به القرية قيام دستور جديد على إثر إنهاء سابقه . يميز الفقه الدستوري بين مجموعتين رئيسيتين من أساليب أو طرق إنهاء الدساتير ، الأولى تتعلق بالنهاية الطبيعة للدساتير أو النهاية العادية بإلغاء الدساتير ( الأسلوب العادي ) ، وقد تسمى كذلك بالطرق القانونية ، والثانية تتعلق تتعلق بالنهاية غير الطبيعة للدساتير أو النهاية غير العادية الدساتير ، وقد تسمى بالنهاية الفعلية لها ، وتكون عبر الثورات أو الانقلابات ( الأسلوب الثوري ) .
كما تجدر الإشارة إلى أن بعض الفقه يضيف أسلوبا ثالثا من أساليب نهاية الدساتير ، وهو أسلوب ” سقوط الدستور نتيجة عدم تطبيقه ” ، كأسلوب متصل بقيام عرف دستوري بعدم تطبيق الدستور يؤدي إلى سقوطه وإنهانه ، وهو ما تطرقنا إليه بصدد العرف المسقط أو العرف الملغي ، وهذا الأسلوب مختلف بشأنه بين رجال الفقه الدستوري من جهة ، كما أن التاريخ لايسجل سوى مثال واحد فقط للأسلوب ، وكان ذلك مع الدستور الفرنسي لسنة 1793 ، ثاني دساتير الثورة الفرنسية ؛ حيث جرى العرف بعدم تطبيقه منذ صدوره .
النهاية الطبيعية للدساتير : ( الأساليب العادية / القانونية ) يقصد بالأسلوب العادي لانتهاء الدستور ، وضع حد لحياة الدستور القائم ، وذلك بالإعلان عن إلغائه ووقف العمل بأحكامه بشكل هادئ من دون اللجوء إلى استخدام القوة أو العنف ، واستبداله بدستور آخر يتلاءم مع التغييرات التي طرأت على الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الدولة
هذه النهاية نميز بين نهاية الدساتير العرفية والدساتير المكتوبة / المدونة النهاية العادية للدساتير العرفية : وبخصوص تلغى تنتهي الدساتير العرفية بطرق عادية / قانونية سواء من خلال :
– نشأة أعراف دستورية جديد ( تتوافر فيها كامل شروط العرف ) تحل محل القواعد الدستورية السابقة .
– عبر وضع دستور جديد مكتوب / مدون يحل محل الدستور العرفي ويلغيه .
– إنهاؤها عبر إصدار قوانين عادية تلغي الأعراف الدستورية القديمة . النهاية العادية للدساتير المدونة : من داخل هذا النوع من الدساتير نميز كذلك بين إلغاء ونهاية الدساتير المرئة ونهاية وإلغاء الدساتير الجامدة .
– الدساتير المرنة : أسلفنا أن الدساتير المرنة هي تلك الدساتير التي تعدل أحكامها بواسطة السلطة التي تسن القوانين العادية ذاتها السلطة التشريعية ) ، وبإتباع ذات الإجراءات والشروط المقررة لسن أو تعديل هذه القوانين ؛ فلا توجد أية ( وهي فرقة بهذا الصدد بين القوانين الدستورية والقوانين العادية ، لذلك فإن التعديل الجزئي أو الكلي للدستور المرن ، يتم وفقا لذات الآليات والطريقة / الإجراءت التي يتم بها سن وتعديل القوانين العادية ، بمعنى أنه يجوز للبرلمان تعديل الدستور جزئيا ، أو وضع دستور جديد وإلغاء الدستور القائم بذات إجراءات وشروط إقرار القوانين العادية
– الدساتير الجامدة : إذا كانت دساتير الدول المختلفة تنص على طريقة التعديل الجزئي لأحكامها ؛ حيث تخص ذلك بباب أو مجموعة فصول في متن الوثيقة الدستورية لبيان الجهة المختصة والقواعد والإجراءات الواجب إتباعها عند تعديل أحكامها كما فصلناه في النقطة السالفة ، فإنها في الغالب الأعم على العكس من ذلك لا تبين أسلوب أو كينية إنهائها أو إلغائها . لذلك عادة ما يثار التساؤل حول الجهة التي يمكنها إلغاء الدستور القائم ، وفي محاولات الفقه الدستوري للإجابة عن هذا التساؤل يمكننا رصد ثلاثة اتجاهات .
– الاتجاه الأول : يقول بخضوع الإلغاء لقاعدة توازي وتقابل الأشكال ، أي أن الطريقة التي نشأ بها الدستور داتها الواجب اتباعها في إنهائه .
– الاتجاه الثاني : يعتبر أن الإلغاء ما هو إلا تعديل كلي لأحكام للدستور ، وبالتالي يرى نهج نفس آليات التعديل الجزئي واتباع ذات إجراءاته ( من اختصاص السلطة التأسيسية الفرعية وبذات الإجراءات ) .
– الاتجاه الثالث : يرى أن الإلغاء يعود للشعب صاحب السيادة ، وهو أمر مرتهن بإرادته كونه صاحب السلطة التأسيسية الأصلية ، وبالتالي يحدث الإلغاء ضمنيا عبر إقرار وقيام دستور جديد يلغي القديم ، سواء بطريقة غير مباشرة عبر انتخاب جمعية تأسيسية تنوب عنه في وضعه ، أو بطريقة مباشرة من خلال استفتاء دستوري .
وبخصوص الاتجاهين الأول والثاني اعترضتهما مجموعة من الانتقادات بعدد الأول ، انصبت على كون طرق وضع الدساتير تتطور بتطور المجتمعات ، وبالتالي لا يمكن تقييد أو ارتبان مجتمع ما بذات الطريقة ، في حين أن انتقادات الاتجاه الثاني تعلقت خصوصا بصلاحية السلطة التأسيسية الفرعية في التعديل الجزئي للدستور فقط ، أما القول بأن قيام دستور جديد هو بمثابة تعديل كلي لا يستقيم وإلغاء دستور باكمله ووضع ونشأة دستور جديد ، ويعد تخويلها هذا الاختصاص سطوا على اختصاص السلطة التأسيسية الأصلية . لذلك يبقى الاتجاه الراجح هو الثالث على اعتبار أن السيادة للشعب وله تعود سلطة الإلغاء والوضع ، إن بطريقة مباشرة ( الاستفتاء الدستوري ) أو بطريقة غير مباشرة ( الجمعية التأسيسية ) ومن الناحية الواقعية ، يكون الإلغاء عاديا / قانونيا حين يتم طبقا لمقتضيات الدستور نفسه وللإجراءات التي يحددها في نصوصه ، وهو أمر نادر الحصول باعتبار أغلب الدساتير لا تشير إلى جهة الإلغاء الشامل للدستور ، ويعتبر أيضا كذلك ( إلغاء عادي / قانوني ) حين يتم من خلال وضع دستور جديد ينص صراحة على إلغاء الدستور القديم ، أو يفهم ذلك ضمنيا إذا كان الدستور الجديد يتناقض مع أحكام الدستور القديم ، أو أنه يعدل أغلب أحكامه ، وتكون النهاية القانونية للدساتير عبر إرادة الشعب ، خاصة وأن هذا الأخير هو صاحب السلطة التأسيسية الأصلية 2 ، فيتم الإلغاء القانوني للدستور ضمنيا وبطريقة غير مباشرة عبر قيام دستور جدید حسب الأساليب المتبعة في إنشاء الدساتير ، سواء عن طريق الاستفتاء ، أو عن طريق الجمعية التأسيسية ، أو عن طريقهما معا تجدر الإشارة إلى أنه حتى بعد سقوط الدستور قد تبقى بعض أحكامه سارية في ظل الدستور الجديد ، بشكل دائم إذا تض منها الجديد ، أو بشكل مؤقت كأحكام انتقالية إذا تم التنصيص في الدستور الجديد على استمرارها لمدة معينة ، لاسيما بالنسبة لاستمرار بعض المؤسسات بنمطها القديم إلى غاية إحداث أخرى وفقا للأحكام الجديدة .
النهاية غير الطبيعية للدساتير : ( الأساليب غير العادية / الثورية ) إنها أساليب تتميز بالطابع الفجائي الذي قد يتضمن معنى القوة أو العنف في إسقاط الدساتير ، وقد تنعت بغير القانونية كونها لا تستند في الواقع على الشرعية القانونية القائمة ؛ إذ هي في الأصل تعد في حد ذاتها أساليبا للخروج على الشرعية القائمة . وشهد التاريخ نماذج متعددة لإنهاء الدساتير وفقا لهذه الأساليب ، حيث لعبت الثورات والانقلابات دورا كبيرا في إسقاط العديد من الدساتير في دول العالم ( في فرنسا لوحدها منذ عصر الثورة سقط 15 دستورا وفق هذا النمط ، مجموعة من دول أمريكا اللاتينية والدول الإفريقية ، … ) ؛ حيث تكون نهاية الدساتير بهذه الدول إثر حدوث ثورة أو انقلاب ، أي باستعمال العنف من أجل القضاء عليها ، ويكون ذلك خاصة في حالة كون أن النظام الحاكم مستبد وغير متطلع لمطالب شعبه ، مما يؤدي لحدوث انقلابات على هؤلاء الحكام ، مما يؤدي عادة إلى تغيير النظام الدستوري والسياسي ، وأحيانا الاقتصادي والثقافي والاجتماعي في الدولة 25 .
هكذا يعتبر الأسلوب الثوري وسيلة غير طبيعية أو غير عادية لانتهاء الدساتير ووقف العمل بأحكامها ، وذلك في أعقاب اندلاع ثورة أو حدوث انقلاب ، لذلك تعد كل من الثورة والانقلاب وسيلتان واقعيتان لإنهاء الدساتير ، وليستا وسيلتان قانونيتان ؛ إذ لا تتضمن التشريعات وعلى رأسها التأثير على هاتين الوسيلتين كطريقة أو آلية مشروعة لوضع حد لحياة الدساتير وإنهاء سريان أحكامها. تعد الثورة ” تغييرا أساسيا في الأوضاع السياسية والاجتماعية يقوم بها الشعب في دولة ما ” ، وهي ” تغيير جذري لا يقتصر على نظام الحكم أو الحائزين للسلطة ، بل يشمل التغيير كافة مجالات الحياة في المجتمع ” ، وتشير الموسوعة السياسية إلى أنها ” تغييرات فجائية وجذرية ، تتم في الظروف الاجتماعية والسياسية ، أي عندما يتم تغيير حكم قائم والنظام الاجتماعي والقانوني المصاحب له بصورة فجائية وأحياناً عنيفة ، فهي تغيير ذي طابع جذري راديكالي “، فالثورة لا تستهدف فقط تغيير أشخاص الحكام ، وإنما تتعداها إلى إحداث تغييرات أساسية في نظام المجتمع في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، كتغيير النظام السياسي من نظام ملكي إلى نظام جمهوري ( الثورة الفرنسية سنة 1789 ، والثورة المصرية سنة 1952 ، والثورة الإسلامية في إيران سنة 1979 ) ، أو من نظام رأسمالي إلى اشتراكي ( الثورة الروسية سنة 1917 ) ، وبالنتيجة فإن الثورة تستهدف النهوض بكافة المجالات في الدولة ، وتتعدد الأسباب التي تؤدي إلى قيام واندلاع الثورات ، وإن كانت ترجع في أعمها إلى شعور الأفراد بالظلم ، إلا أنه لا يمكن أن ترجع كل الثورات إلى سبب محدد ، فأسباب الثورات متعددة الأسباب وتختلف باختلاف المجتمعات ، قد تقوم الثورة لأسباب سياسية ، اقتصادية ، اجتماعية ، عقائدية
والانقلاب هو ” عمل مفاجئ وعنيف تقوم به فئة أو مجموعة من الفئات من داخل الدولة ، تنتمي في معظم جان إلى الجيش ، ضد السلطة الشرعية فتقلبها وتستولى على الحكم ، وذلك وفق خطة موضوعة مسبقا ” ويقصد به كذلك ” الوصول للسلطة ، فيتم تغيير الحكام ، حيث يكون الهدف هو الاستيلاء على السلطة ” هكذا تختلف الثورة عن الانقلاب من حيث مصدر الحركة الثورية ، فنكون أمام ثورة ، إذا صدرت هذه الحركة عن الشعب أو مؤيدة من قبله ، ونكون أمام انقلاب إذا صدرت الحركة عن شخص أو فئة معينة حاكمة ، كرئيس حكومة أو قائد الجيش ، أو مجموعة من الضباط ، ودون أن تكون مؤيدة من قبل الشعب ، وكذلك من حيث هدف هذه الحركة ، فإذا كانت كل من الثورة والانقلاب يسعيان إلى تغيير نظام الحكم القائم ، إلا أنهما يختلفان في الهدف من وراء هذا التغيير ، فهدف الثورة أشمل وأوسع ؛ إذ تنشد إحداث تغييرات أساسية في نظام المجتمع ككل وتستهدف تغييره في مختلف أبعاده ، السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، في حين أن الانقلاب يهدف أساسا إلى تغيير الفئة الحاكمة فقط ، والاستيلاء على السلطة والاستئثار بها ، دون أن يكون من أولوياته إحداث تغييرات جذرية في الأوضاع الاجتماعية السائدة ، ومن ثم فإن نتيجة هذا الانقلاب في تحقيق مصالح فردية للأشخاص الذين قاموا بالانقلاب عكس الثورة حيث استهداف مصالح الجماعة القائمة بالثورة ( الشعب ) ككل . وحالة نجاح الحركة الثورية فذلك لن يؤثر على وجود الدولة وإنما على نظام الحكم في الدولة ؛ إذ سيكون لذلك تأثير مباشر على النظام السياسي القائم ، وعلى الدستور والقوانين المعمول بها في الدولة ليثار التساؤل حول مصير الدستور إثر الحركات الثورية الناجحة ، هل يسقط الدستور تلقائيا بعد نجاح تلك الحركة ؟ أم أن الأمر ليس حتميا ؟ وحالة ما إذا أسقط الدستور ، هل تسقط أحكامها كلا دون استثناء ؟ أم تسقط جزئيا ببقاء بعضها ؟ وإن بقيت منها قائمة فما هي تلك الأحكام التي تبقى سارية ولا يشملها السقوط ؟ .
إسقاط الدساتير إثر نجاح الحركات الثورية : اختلفت آراء الفقه الدستوري بشأن مصير الدساتير بعد نجاح الحركات الثورية ، وانقسم إلى اتجاهين رئيسن مختلفين في هذا الشأن .
– الاتجاه الأول يرى أن الدستور يسقط تلقائياً بعد نجاح الثورة أو الانقلاب : غالبية الفقه الدستوري ترى أن الدستور القائم يسقط فوراً من تلقاء نفسه بمجرد نجاح الثورة أو الانقلاب ، ودون أن تكون هناك حاجة لإعلان هذا السقوط أو النصن عليه ، ومرد ذلك إلى كون اختلاف وتعارض نظام الحكم الجديد الذي هدفت الحركة الثورية إلى إقامته وتقريره مع نظام الحكم السابق الذي كان يؤطره دستور ذلك العهد . دون أن ينفي ذلك أو يلغي إمكانية إصدار إعلان يقضي بسقوط وإنهاء الدستور السابق ، أو النص على ذلك الإنهاء في الدستور الجديد ، إلا أن هذا الإعلان أو النص يبقى مجرد كشف وتقرير لما هو واقع وليس بمنشئ لوضع جديد بل حدث سلفا مع نجاح الحركة الثورية ” .
– الاتجاه الثاني يرى أن هذا السقوط ليس أمراً حتميا : إذ يتوقف الأمر على طبيعة أهداف الثورة وإرادة القائمين بها ، فليس من اللازم أن يترتب على ذلك النجاح سقوط الدستور تلقائيا ؛ إذ قد يكون الهدف من الثورة الانقلاب هو حماية الدستور من تجاوزات وعبث الحكام ؛ إذ أن الثورة هنا تعتبر بمثابة ضمانة من ضمانات احترام الدستور ، وإن كان الأمر كذلك فكيف للثوار إسقاط دستور هم ما ثاروا إلا للدفاع عنه وصيانة نصوصه . كما أنه في حالات أخرى قد يحتاج الأمر إلى الإبقاء على الدستور فترة من الزمن قبل أن يعلن قادة الحركة الثورية سقوطه ، فيتريث هؤلاء القادة في الإعلان عن سقوط الدستور حتى تستقر الأوضاع في الدولة وتتهيا الظروف لذلك الأحكام الدستورية التي يشملها السقوط : الراجح فقها أن نجاح الثورة أو الانقلاب يؤدي غالباً إلى سقوط الدستور القائم ، إلا أن هذا السقوط لا يمس كافة الأحكام والقواعد الدستورية ؛ حيث ترى غالبية الفقه الدستوري أن سقوط الدستور بالثورة أو الانقلاب لا يمس من القواعد الدستورية إلا ما تعلق منها بنظام الحكم في الدولة ، وهي القواعد التي تقوم الثورة عادة من أجل تغييرها ؛ فالثورة تكون موجهة إلى التنظيم السياسي للدولة ( بالإضافة إلى التنظيم الاجتماعي والاقتصادي ) ، ويترتب على ذلك أن القواعد الدستورية التي لا تتعلق بنظام الحكم في الدولة تظل باقية رغم قيام الثورة ، ومثال هذه القواعد :
– الأحكام والقواعد المتعلقة بحقوق الأفراد وحرياتهم . فيرى معظم الفقهاء أن سقوط الدستور يجب أن لا يترتب عليه أي مساس بالمبادئ والضمانات المقررة لحقوق الأفراد وحرياتهم ، لأنها غدت أسمى من النصوص الدستورية الوضعية . ومن ثم فإن سقوط الدستور إثر نجاح الثورة أو الانقلاب لا يجب أن يترتب عليه أي مساس بهذه الحقوق أو تلك الحريات .
– الأحكام والقواعد التي تعتبر دستورية شكلا لا موضوعا : يرى غالبية الفقه الدستوري أن إلغاء الدساتير أو إسقاطها إثر نجاح الثورة أو الانقلاب يستتبع معه فقط إلغاء النصوص التي تكون لها الطبيعية الدستورية من ناحية الموضوع -قواعد دستورية بطبيعتها- ، أي تلك النصوص التي تتعلق بنظام الحكم في الدولة ، أما تلك الأحكام التي تعتبر دستورية شكلا لا موضوعاً -واردة في الدستور دون أن تكون لها طبيعة دستورية- فإنها تظل باقية رغم إلغاء الدستور .
إن نجاح الثورة أو الانقلاب لا يمنع من الإبقاء على بعض النصوص الدستورية ، سواء ما اتصل منها بالأحكام والقواعد المتعلقة بحقوق الأفراد وحرياتهم ، أو الأحكام والقواعد التي تعتبر دستورية شكلاً لا موضوعاً ، وهذه الأخير ممكن إصدارها كقوانين عادية دون يبقى لها الشكل الدستوري ، كما يمكن كذلك الإبقاء على أحكام أخرى طالما أنها كانت متفقة مع قيم الثورة ومبادئها وإيديولوجيتها ، ولا يتم إلا إسقاط ما تعارض مع ذلك .